القائمة الرئيسية

الصفحات


 عزري العلوة سيدي محمد البهلول 


الصوفي الزجال:


سيدي محمد البهلول، عزري العلوة، شامخ القدر، مول الراكوبة، مولى عشر قبب، الشيخ البهلولي، المهبول...تسميات متعددة والمسمى واحد. وكل تسمية لها دلالاتها وسياقها الذي توظف فيه. فحين نريد تعيينه لا يرد اسمه محمد (فتحا) البهلول إلا مقرونا بـ"سيدي".


ولما نبغي تمييزه عن باقي ضمان العلوة وصلحائها، التي يقال عنها: إن العلوة كل حجرة بصالح أو ولي، يسمى بـ"العزري" والمقصود هنا فحل الأولياء والصالحين فيها وعمادها الأساس. وعندما نود إبراز مكانته عند الله، يطلق عليه "شامخ القدر". وكلما أريد تعيين مقامه وعلو مكانته حتى وهو ميت سمي "مول الراكوبة"، والمقصود هنا الفضاء الذي دفن فيه والذي "يرقب" كل الفضاءات المحيطة به، حيث يرى من مكان بعيد، بالإصافة إلى إيحاءات أخرى تتضمنها هذه الصفة.

وعندما يقاس ضريحه بأضرحة غيره من أو لياء العلوة وصلحا المغرب قاطبة، ينعت بـ"مولى عشر قبب" حيث قبب أبنائه وبعض أحفاده، ويهودي أسلم على يديه. وكل ولي صالح. وإذا ما تم الاستشهاد بكلامه ورباعياته وعروبياته، كانت الإشارة إليه بالقول: قال "الشيخ"، وكان لا شيخ إلا هو. وإذا ما أريد الإخبار عن كراماته ومناقبه ذكر بلفظ "المهبول"، وهي قلب لبائه ميما ولامه باء. لتحمل بدلالات الشخص المختلف عن الناس، الشخص الذي يوجد في حالة وجد، أو الذي يرى ويتكلم بما لا يرى وما لا يتكلم به كل الناس...

إن تعدد هذه الأسماء ومدلولاتها والسياقات التي توظف فيها يشي، بكيفية واضحة، إلى تميز صاحبها عن بقية الناس، ونتبين، حين نعمل على النظر في هذه الأسماء وحقولها الدلالية، أن بإمكاننا التمييز بين ثلاثة حقول: إن إضافة لفظ سيدي يشير إلى نسبه الشريف. ومن باقي الصفات نتبين إلى أنه ولي صالح. أما صفة الشيخ فدالة على كونه "شاعرا زجالا".

ينطق الولي الصالح (الصوفي) بكلام لا يمكن أن ينطق به أي شخص، لما يتميز به من تعبيرات دقيقة صائبة عن الإنسان والعلاقات بين الناس من جهة، ومن جهة ثانية عن علاقة الإنسان بالله.

الحضور المتواصل:

قليلة هي الشخصيات في تاريخ المغرب التي خصت بهذه الحظوة والمكانة، فسيدي محمد البهلول صار رمزا مغربيا اسمه في مختلف المناسبات الشعبية حيث يكون الاحتفال ويكون الفرح: في الأعراس وفي الساحة العمومية وفي الأسواق الشعبية حيث يجتمع الناس في "الحلاقي" لسرقة لحظات من المتعة. وساعدت وسائل الإعلام من جعل اسمه يتكرر باستمرار في الأغاني الشعبية في الداخل والخارج. ولقد جعل هذا اسمه حاضرا، بشكل متواصل، يسمعه كل المغاربة لكن لا يعرف دلالاته الحقيقية سوى أبناء المنطقة (امزاب – الشاوية – الدار البيضاء ونواحيها).

أما الاسم فهو "عزري العلوة" وأما "الأغنية" التي فيها اسمه فهي معروفة تحت عنوان "العلوة". كيف يتحول صوفي زجال إلى موضوع أغنية؟ إنها ليست أغنية مثل باقي الأغاني. إنها "الساكن" وهو نوع من أنواع الأداء الشعبي الذي يتصل فيه الغناء بالموسيقى بـ "الحضرة": الرقص الفردي أو الجماعي المرتبط بـ "الحال" أو الشجن العميق. في الساكن يتم مدح "الولي" (عرزي العلوة) والتقرب إليه بذكر مناقبه والتوسل إليه بدفع مضار أو جلب منافع لما له من مكانة عند الله الذي يستجيب لدعائه.

أذكر أنه، في الحلاقي التي كانت تقام في اشطيبة بالدار البيضاء (وفي كل مكان) في الستينيات والسبعينيات، لم يكن يشرع المغن ون وعبيدات الرمى في أداء "وجيباتهم" إلا "بالعلوة" تيمنا وتفاؤلا بـ "عزري العلوة" وبها يجلبون الزبائن:


بسم الله باش بديت  على النبي صليت

أماتو صليوا عليه   قد البحر وما فيه

بغايت نمجد "القبة"   نذكر عزري العلوة

جيتي في راكوبة   باقي فيك النوبة

     

كما أنه في الأعراس، في المنطقة، كانوا يفتتحون بها ويختتمون. ومؤخرا في إحدى زيارتي لمسقط قال لي الباحث السوسيولوجي عبد الفتاح الزين "سأسمعك العلوة في عمان" وكذلك كان.

"ساكن العلوة" يمكن أن يؤديه أي مغن محترف إذا كان يحفظ الكلام يتضمنه هذا الساكن. كان قلة جدا من يتقنون أداءه موسيقى وكلمات. لكن كل المطربين الشعبيين وشبه العصريين، في المغرب أو في العالم العربي، يؤدون "العلوة" تحت الطلب أحيانا أو لإضفاء جو خاص على المجلس الذي تقدم فيه. هذه الحالة التي صار بموجبها سيدي محمد البهلول اسما يتردد في مختلف المناسبات لم تتأت لكل الأولياء والصالحين. ولعل البحث في هذه الظاهرة لا يمكن إلا أن يدفع في اتجاه التفكير في المغرب الشعبي وتاريخه الخاص.

لقد ظل "عزري" يتردد من خلال "العلوة" كنغمة موسيقية له ا صيتها وموقعها في الغناء الشعبي المغربي. لكل لا احد يعرف من هو عزري العلوة ؟ ولا متى عاش ؟

1-ديوان الشيخ:

من هنا تأتي أهمية هذا الكتاب. إنه محاولة لملمة شتات الذاكرة الشعبية، ونزع غبار النسيان عن شخصية تاريخية لها موقع متميز في تاريخ المغرب.

بذل المصطفى أوزاع مجهودا طيبا في الرجوع إلى المصادر التاريخية، واعتماد الوثائق المخطوطة لتشكيل صورة موضوعية عن سيدي محمد البهلول وعن عصره وثقافته. كما أنه قام بالعمل نفسه في تدوين أقوال الشيخ الزجلية من رباعيات وعروبيات وهو يلتقي بشيوخ العلوة وأبناء سيدي محمد البهلول جامعا من أفواههم محفوظاتهم من أقوال الشيخ وأخباره. وهو بذلك مساهمة ذات قيمة كبيرة في تسليط الضوء على علم هام من أعلام التصوف بالمغرب من جهة، ومن جهة ثانية يقدم لنا تجربة شعرية متميزة لشاعر زجال قل أمثاله في المغرب. ويمكن اعتبار سيدي محمد البهلول ثاني شاعر بعد سيدي عبد الرحمان المجذوب من حيث القيمة الرمزية والفنية. ولعل اشتراكهما في الصفة الغالبة على كل منهما: المجذوب والبهلول لها أكثر من دلالة في الوشائح التي تصل أحدهما بالآخر. إن هذين الشاعرين كان لهما أكبر الأثر في الوجدان الشعبي المغربي، وبقي كل امهما شائعا بين الألسنة ترددها في المناسبات المختلفة ويتسرب جزء منها في الأغاني والأهازيج والأمثال المغربية.

لم يترك سيدي محمد البهلول طريقة صوفية لها شيوخ ومريدون، كما نجد مع العديد من الطرق الصوفية بالمغرب. ولكنه ترك كلاما مكمولا، له بعد شعري يتميز بعمق جماليته صيغة وتركيبا وقوة دلالية في التعبير عن الإنسان والعلاقات بين الناس. وهو في هذا الكلام الكامل المكمول يجسد ممارسته الصوفية ورؤيته عن ذاته في تفاعلها مع الواقع في مختلف تجلياته.

تعرفت على سيدي محمد البهلول وأنا جد صغير. كان موسمه السنوي في فصل الصيف جزءا أساسيا من عطلتنا المدرسية التي كنا نقضي شطرا هاما منها في البادية. كنت أحفظ الغاني التي تقال في الثناء عليه. وبعد أن تفتحت على إدراك تميز كلامه، صرت اتتبع كل من يحفظ كلامه ودونت ذلك في أوراق ما زلت احتفظ بها، وكان في نيتي دائما، القيام بصنعة لديوانه الشعري، وتقديم دراسة عنه. وتعددت الاهتمامات وتشعبت، وظل الحلم يراودني، وأنا أتمنى إفراغ فسحة من الزمان للعودة إليه، إلى جاءني خبر إعداد المصطفى وزاع لأطروحة عن سيدي محمد البهلول مع جمع نصوصه الشعرية.

كان سروري عظيما. لقد أنجز الحلم وجعله حقيقة. وا تصلت بالأستاذ المشرف محمد بلاجي مخبرا إياه أنه إذا كان الأساتذة يتهربون من مناقشة الرسائل والأطروحات عادة، فإنني أقترح نفسي للمشاركة في مناقشة أطروحة المصطفى وزاع. فلبى مشكورا، وسررت كثيرا عندما اطلعت عليها. وحرصت على طبع العمل ، وبقي اتصالي بالباحث لإخراجه لما يمكن أن يقدمه من خدمات جليلة للثقافة المغربية والعربية على السواء. وكان تفهم الأستاذ عبد الكبير العلوي الإسماعيلي ودعم وزارة الثقافة أساسيا في ترجمة هذا العمل، ونقله  من الذاكرة الجماعية التي ظلت تتناقله عدة قرون إلى المخطوط (الأطروحة) الذي بذل الباحث فيه جهدا مضاعفا في جمعه وتنقيحه، وجعله قابلا للقراءة، ويسرنا اليوم أن نقدمه الآن للقارئ المغربي والعربي وللأجيال القادمة لترى فيه كلاما لا يشبه الكلام، ونصا غنيا وموحيا، عميقا وجميلا ومحملا بكل المواصفات التي تجعله نصا يستفز الإبداع، ويحمل على البحث.



تعليقات